-->

لا للدلال الطلابي ..

إذا أردت أن تفقد من تحب فليس عليك سوى تدليله، إذا أردت أن تحطم مستقبل طفلك فزده تدليلاً، كثير من الناس يحطمون مستقبل أبنائهم بأيديهم، ويظنون أنهم يشيدون لهم قصورًا من النجاح بالتدليل وأنهم بذلك لهم محبون، وهم في الحقيقة خاسرون، يبنون شخصية ضعيفة هزيلة كبيت العنكبوت، وما هي إلا أوهام أبت قلوبهم تصديقها وعقولهم فهمها.
لم يقرؤوا التاريخ جيدًا، أعميت أبصارهم عن عظات كل يوم تعرقل خطواتهم. كانوا أشبه بالنقش على الرمال،أو بمن أحب زرعه ونباته كل يوم يتعهده ويرويه حتى غرق في الماء، لم يردعه يومًا ذبول أوراقه ولا ضعف سيقانه، بل زاده مزيدًا من الماء، وجلس ينعي حظه ويبكي فراقه، وهيهات ينفع الندم بعد فوات الأوان.
إن أشد ما يعاني منه معلم الصف الأول الابتدائي من مشكلات هو تدليل بعض الأولاد الزائد، منهم من يرفض دخول المدرسة بالكلية, ومنهم من يتخذ البكاء له رفيقًا، وكيف يتعامل مع من لم يفارق أمه سويعة، ويريد أن يحبسه ساعات طوال داخل أركان أربعة، وكراس صماء وطاولات اصطفت بلا حراك، مع أطفال لم يرهم من قبل, وسط ضجيج من الأصوات المتزاحمة التي لم يعهدها ويألفها.
المعلم أشبه له بالسجان وجرس نهاية الدوام طوق النجاة، كيف يتعامل المعلم مع طفل لا يعرف في قاموسه اللغوي كلمة (لا)، أو (انتظر قليلاً)، أو (دعنا نؤجل الأمر لنناقشه غدًا)، أو (اترك فرصة لمشاركة زملائك)، وقد تعود أن تلبى رغباته بمجرد طلبها، بل ربما حرمه أبواه فرصة التفكير فيما يتمنى فيجد كل شيء متاحًا قبل أن يفكر فيه، قتلوا فيه الطموح، لم يمهلوا عقله حتى متعة الأحلام.
ربما يكون هذا الطفل هو الوحيد لدى أبويه فيلقى من الرعاية والاهتمام فوق ما تمنى، خوفًا أن يصيبه مكروه أو يناله أذى، وقد يكون طفلاً لأبوين تأخرا كثيرًا في الإنجاب وأنعم الله عليهما بمولود صار لهما والدًا ومشرعًا وحكمًا وقاضيًا، وصارا له أداة لهو واستمتاع.
وكثيرًا ما يعاني المعلم من طفل هو الوحيد بين أخوات بنات، فكان السيد الآمر الناهي صاحب النفوذ والكلمة المسموعة ملكًا على عرش أسرته.
ولربما تربى الوالد على التدليل ويحب أن ينهج نفس الطريق وكأنه الصراط المستقيم مع تغاير الظروف وتتابع السنين، فيلبس ابنه عباءته المرقعة دون أن ينفض من عليها الغبار، ويترك ابنه يخرج على الناس كما خرج أهل الكهف في زمان ليس زمانهم وأناس لا يشبهونهم.
وأشدها كارثة حينما ينفصل الأبوان طوعًا أو كرهًا، حينئذ يرقص الطفل على أوتار قلبيهما، فكلاهما يسعى ليكون هو الأفضل تلبية لرغباته، فيستغلهما الابن أسوا استغلال، ويضرب بيد من حديد على من يرفض له طلبًا، يكفيه أن يقول له: أنا لا أحبك, فتقوم الدنيا ولا تقعد، وتأتيه باريس ونيويورك زاحفة تحت قدميه أملاً في استعادة حبه الذي لم يضع.
وللأجداد نصيب في كتابة شهادة وفاة شخصية الطفل، فالجدة التي باتت لا تؤمل في الدنيا الكثير، وتبكي ما مضى لها من سنين, تكون أحد وسائل الابن لمعاقبة والديه، فهو كنور عينيها لا ترفض له طلبًا ولا تؤجل له رغبة, والسعادة كل السعادة في ابتسامة ترسمها على وجهه، ربما كانت مصدر شقائه فيما بعد.
في الحياة نعيم وشقاء، أفراح وأتراح، ابتسامات ودمعات، ثواب وعقاب، ومن منا لم يحلم ولم يتحقق حلمه؟ من منا لم يرغب في شيء وحرم الوصول إليه ؟ تلكم هي الحياة وفي ذلك متعة العيش فيها.
أعزائي الآباء ليكن تعاملكم مع أبنائكم منحًا ومنعًا، فالمنع كثيرًا ما يكون عطاء، لا تجعلوا من النعمة التي بين أيديكم نقمة، فمن شب على شيء شاب عليه، لربما زالت النعم من أيديكم يومًا ما. والطفل الذي تعود التدليل لا يعرف سوى الأخذ ولا يعرف معنى العطاء, وإذا ما طلب من صديقه شيئًا ومنعه إياه إما أن يعتدي عليه ضربًا لأنه لم يتعود أن يرفض له أحد طلبًا، أو ربما ينزوي وينطوي ويعتزل أقرانه، يكون أكثر غيرة وأنانية.
الإسلام دين الوسطية والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، والعطف أساس المحبة، وللين وقته وللشدة أسبابها، لتكن سياستكم مع أولادكم لينًا بلا ضعف وشدة بلا قسوة، فلكل مقام مقال، ليتك تحنو عليه وقت يحتاج الحنان، وتؤدبه وقت يحتاج تعديل السلوك، ليتك تبتسم في وجهه عندما تقول لا، ويكون العقاب على قدر الخطأ، والجزاء والثواب على قدر الإحسان، ربما يكون للحرمان أو للضرب غير المبرح بصمة في تغيير مجرى حياته، فما زلت أذكر أشياء منعني إياها أبي - رحمة الله عليه - لم أدرك مغزاها وقتها، وكنت كثير الغضب، والآن أدركت عظيم صنعه، وقدرت له أياديه البيضاء ومقدار شقائه لننعم بما نحن فيه الآن.
إن التعامل مع الطفل على أنه مسؤول منذ الصغر ونعومة أظفاره يربي فيه الاعتماد على النفس حتى في أبسط الأمور كترتيب ألعابه في أماكنها المخصصة، أو أن يلبس ملابسه أو يختارها، ويرتب غرفته ويساعد فيما يستطيع أن يفيد له عظيم الأثر في بناء شخصيته المحبة المتعاونة. واختلاط الأطفال بمن هم في سنه وتعليمه كيف يتعامل مع الصغار والكبار أولى لبنات في بناء الثقة بالنفس وحب الغير.
للأبوين الدور الأكبر في تربيته على أن يحب ما لديه ولا يطمع فيما هو في يد غيره، وألا يفكر في شراء كل ما تقع عليه عيناه.للتهذيب والتأديب في السنوات الأولى من عمره الطريق المستقيم الذي لا ينحرف عنه طوال حياته، وغير ذلك يميل به ويجرفه لتيار الأهواء التي لا تنقطع والأماني التي لا تتوقف.
المعلم الناجح لا يتصادم مع الطالب المدلل بداية، ولا يتعمد إحراجه أمام زملائه، يتدرج معه بالمنح قبل المنع، بالعطايا قبل الوصايا, بالحنان قبل العتاب. ومن الوسائل المجدية معه أن يعده بالذهاب إلى بيته مبكرًا عن زملائه إذا شارك زملاءه التعلم، يهديه هدية يحبها إذا أجاد التعامل مع زملائه وتعاون معهم، وكثيرًا ما يكون الطفل ميالاً للانطواء بعيدًا عنهم على المعلم أن يشركه في اللعب معهم ويودد أصدقاءه إليه ويطلب من الطلاب الأكثر نشاطًا التقرب منه وتشجيعهم على ذلك، وللتعلم التعاوني دور كبير في تخلصه من الأنانية والعمل بروح الفريق وحب زملائه, وحبذا لو فاجأه المعلم بالاتصال على أحد أبويه، يزيده ذلك اطمئنانًا إليه، ويقلص من توتره وقلقه الزائد، ويكن له في قلبه نصيب، وقراءة ملف الطالب ومعرفة وضعه الاجتماعي وسبب تدليله أولى خطوات العلاج لوضع الوسائل المناسبة في تقويمه وعلاج سلوكه بالشراكة مع والديه والمحيطين به.
وكلما كان المنح مشروطًا باستجابة الطالب لما يطلبه منه معلمه وحسن سلوكه وتعاونه مع زملائه أتى بنتائج مذهلة، وقد لاحظت أن الأطفال المدللين أكثر الطلاب تأخرًا دراسيًا، فلا يعنفهم ولا يقسو عليهم ولا يأخذهم بجريرة أبويهم، وليتسع صدره ويصبر عليهم، وبين مطرقة المنهج الدراسي وسندان الاختبارات والتقييم يواجه الطالب فشلاً في بدايات طريقه للتعلم، فلا يكن معول هدم وليكن خير بناء، وليزرع في نفسه أن الفشل مرة لا يعني الإخفاق كل مرة، وليرسم له طريقًا أخضر، وليمطر على مسامعه كلمات التشجيع دومًا.
بيديك عزيزي المعلم الدواء الشافي والحنان الكافي، لتكن كهف الأمان الذي يأوي إليه، لا تكن الصخرة التي تتحطم عليها كل أمانيه. فينفر منك، وتنضم إلى قائمة من أضاعوه وبجهلهم وتجاهلهم افتقدوه، فاهتمامك به سبيل حبك، ويكون طوع إشارتك, وخذلانك له فيه كرهك وعصيان أمرك, اكسب قلبًا ورب نفسًا خير من أن تخسر روحًا وتكسر أملاً. هو بذرة إن شئت جنيت زهرًا وإن أبيت زرعت شوكًا. الله الله في أبنائنا.
منقول

بقلم : محمود إبراهيم موسى 

مجلة المعرفة

اقرأ أيضا:

0 التعليقات



Emoticon